الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وقرأ الجمهور {المَخاض} بفتح الميم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها، روي أنها بلغت الى موضع كان فيه جذع نخلة بالٍ يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه، {يا ليتني مت} ولم يجر علي هذا القدر، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم وأبو عمرو وجماعة {مُت} بضم الميم، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش {مِت} بكسرها واختلف عن نافع، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليه السلام في قوله: «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه».قال القاضي أبو محمد: لأنه زمن فتن يذهب بالدين، {وكنت نسياً} أي شيئاً متروكاً محتقراً، والنسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه، ويقال نِسي بكسر النون ونَسي بفتحها، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ حمزة وحده بالفتح، واختلف عن عاصم، وكقراءة حمزة، قرأ طلحة ويحيى والأعمش، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز {نِسئاً} بكسر النون، وقرأ نوف البكالي {نَسأً} بفتح النون، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب، وقرأ بكر بن حبيب {نَسّاً} بشد السين وفتح النون دون همز، وقال الشنفرى: [الطويل] وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضاً أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت يا مريم أشعرت أني حملت قالت لها مريم أشعرت أنت أني حملت قالت له وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه الى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله تعالى {مصدقاً بكلمة من الله} [آل عمران: 39] وفي هذا كله ضعف فتأمله. وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني اسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملاً على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول الجمهور المتأولين، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم. وظاهر قوله: {فأجاءها المخاض} يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة.
ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة {رطباً}، وقال السدي كان الجذع مقطوعاً وأجرى النهر تحتها لحينه، والظاهر من الآية أن عيسى هو المكلم لها وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله: {بجذع} زائدة مؤكدة قال أبو علي: كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده.قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وأنشد الطبري: [الطويل] وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر والكسائي وابو بكر عن عاصم والجمهور من الناس {تَسّاقط} بفتح التاء وشد السين يريد {النخلة}، وقرأ البراء بن عازب والأعمش {يساقط} بالياء يريد الجذع، وقرأ حمزة وحده {تَسَاقط} بفتح التاء وتخفيف السين، وهي قراءة مسروق وابن وثاب وطلحة وأبي عمرو بخلاف، وقرأت فرقة {يساقط} بالياء على ما تقدم من إدارة {النخلة} أو الجذع. وقرأ عاصم في رواية حفص {تُسَاقط} بضم التاء وتخفيف السين، وقرأت فرقة {يساقط} بالياء، وقرأ أبو حيوة {يسقط} بالياء، وروي عنه {يُسقط} بضم الياء وقرأ أيضاً {تسقط} وحكى أبو علي في الحجة أنه قرئ {يتساقط} بباء وتاء، وروي عن مسروق {تُسقِط} بضم التاء وكسر القاف، وكذلك عن أبي حيوة، وقرأ أبو حيوة أيضاً {يسقُط} بفتح الياء وضم القاف، {رطب جني} بالرفع، ونصب {رطباً} يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة، فمرة يسند الفعل الى الجذع ومرة الى الهز، ومرة الى {النخلة} و{جنياً} معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهو من جنيت الثمرة. وقرأ طلحة بن سليمان {جِنياً} بكسر الجيم، وقال عمرو بن ميمون: ليس شيء للنفساء خيراً من التمر والرطب، وقال محمد بن كعب: كان رطب عجوة، وقد استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوماً فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم الى سعي ما فيه لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي. وحكى الطبري عن ابن زيد أنه قال قال لها عيسى: لا تحزني، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً} [مريم: 23]، فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. وقوله: {فكلي واشربي وقري} الآية، قرأ الجمهور {وقَري} بفتح الكاف، وحكى الطبري قراءة {وقِري} بكسر القاف، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس، وضعفت فرقة هذا وقالت: الدمع كله سخن وإنما معنى قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به العين. وقال الشيباني {قري عيناً} معناه نامي، حضها على الأكل والشرب والنوم. وقوله: {عيناً} نصب على التمييز، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك الى ذي العين وينصب الذي كان فاعلاً في الحقيقة على التفسير، ومثله طبت نفساً وتفقأت شحماً وتصببت عرقاً، وهذا كثير.وقرأ الجمهور {ترين} وأصله ترءيين حذفت النون للجزم، ثم نقلت حركة الهمزة الى الراء، ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف والياء، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا النحو هو قول الأفوه: [السريع] ثم دخلت النون الثقيلة، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون، وإنما دخلت النون هنا بتوطئة ما كما توطئ لدخولها أيضاً لام القسم. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه {ترءين} بالهمزة، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {ترينَ} بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهي شاذة، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية فيقوم عذرها، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة معنى {فقولي} بالإشارة لا بالكلام والا فكأن التناقض بين في أمرها. وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك {إني نذرت للرحمن وصمت}. وقال قوم معناه {صوماً} عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر: [البسيط] وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام، وقرأت فرقة {إني نذرت للرحمن صمتاً} ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتاً، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام. قال المفسرون: أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.
|